fbpx
الوحدة العارية والأعمى الذي رأى!‎

 الوحدة العارية والأعمى الذي رأى!‎

أمين اليافعي

ما تزال كلمات الراحل الكبير عبد الله البردوني ترن في أذني كلما أتى الحديث عن موضوع «الوحدة»: (كل وحدة مهيأة للانفصال كيفما كانت؛ أما وحدتنا فهي منفصلة من يوم قامت، لأنها قامت على الإلغاء). كان البردوني، رحمة الله عليه، واسع الأفق، ثاقب البصر والبصيرة رغم إعاقة العمى، عميق الإدراك بتفاصيل الواقع وتعقيداته، ومستشرفاً ضليعاً لمآلاته بناء على مقدماته والكيفية التي يتشكل بها حاضره (وهو ما يدفعني دوما، في حضرة البردوني، وبمقارنة مع حالات مشابهة، أن أطرح سؤالاً فلسفياً يتعلق بعلاقة الحواس بالعقل، وهل حاسة البصر تحديداً نعمة أم نقمة على بصيرة العقل؟)

فوق هذا، كان على قدر كبير من صفاء الرؤية، ولديه رغبة نبيلة في التجرد، وهو ما ميّزه باستمرار عن غيره من المثقفين اليمنيين؛ فلم يقع في فخ الخلط بين الحلم والواقع، الأفكار المتعالية والصورة التي آلت إليها على مستوى الممارسة أو ما تم ممارسته باسمها على نحوٍ شديد الوقاحة والرداءة.

وتكمن ميزة البردوني الكبرى في نزوعه الدائم، وبعناد رفيع، إلى الابتعاد عن الانضواء في دهاليز أي سلطة، وكل سلطة، تاريخية كانت أم آنية، سياسية أم اجتماعية، وتحاشي الدخول، ما أمكن، في شبكة مجاري صرفها الصحي وغير الصحي!.. وقد أمتلك من الشجاعة والجرأة لدرجة أنه لم يتوان قط عن نقد أي فكرة أو معتقد سابق إذا ما تبين له، من خلال الممارسة، فجاجته حتى وإن كانت كل جوانحه قد آمنت به، وهتفت له إلى وقتٍ قريب (فالفجر المختبي الذي سلبه من الدجى، بات بعد بضع سنواتٍ، قناديل، لكن كان الدُجى أدجى من هذه القناديل[1]!).

كان البردوني مثقفاً حقيقياً ورفيعاً، وكان قبل كل شيء مستقلاً إلى أبعد حد (مستقلاً سياسياً وثقافياً واقتصادياً..!)، وهي الصفة التي تجعل من مهمة المثقف أشبه بمهمة “روبن هود” في المخيلة الشعبية كما يقول إدوارد سعيد، فهو شخص ليست مهمته تهدئة الأوضاع أو تعزيز الإجماع, بل هو شخص يرهن وجوده كله للإحساس النقدي، وهو إحساس يشي بعدم تقبل الصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة تماما لما تقوله الجهات القوية أو التقليدية, كما يكون لديه استعداد قوي لقول ذلك على الملأ.

ولعل استحضار البردوني في مثل هذا التوقيت، وقرنه بموضوع الحديث عن الوحدة له ما يبرره. فمن ناحية، لن يكون هناك من هو مثله للحديث عن موضوع تم إضفاء عليه من القدسية والشعائر والطقوس من قبل الحركات الوطنية والقومية والدينية المعاصرة مثل موضوع الوحدة، وكما لم يتم مع موضوع آخر؛ لا موضوع ديني كان كذلك ولا موضوع دينوي! فتصل الوقاحة ذروتها في ظل هذا الجو العقائدي المشحون، ليصبح مبرراً لأطرافٍ عدةٍ أن تجرؤ على القول بأن “الوحدة معمدة بالدم”!.

من ناحية ثانية، ظهور موجة من كتابات بعض النُخب؛ وبعض من هذه النُخب كان جزء من تاريخ ما يُسمى بـ”الحركة الوطنية”، وهي كتابات كانت صادمة خصوصاً تلك التي أتت ممن تميزوا بخطابٍ متزنٍ ومنصفٍ إلى حد كبير؛ إذ عمدت ـ هذه الكتابات ـ إلى  تصنيف الناس إلى مؤمنين وكفار بناء على واقع هو أبعد ما يكون عن الوحدة سواء عن تلك الوحدة التي بشرت بها الحركة الوطنية نفسها طوال تاريخها أو مقارنة بأي وحدة طبيعية موجودة في الوقت الحاضر على وجه البسيطة!

إن العودة إلى البردوني اليوم، وسط كل هذه الأكداس العقائدية والغوغائية، هي أشبه بالعودة إلى نبعٍ صافٍ لم تلوثه مجاري السياسية والايدولوجيا، ولم تخنقه الحسابات الوقتية الضيقة، ولم يستطع الزمن كبح أرائه أو تحويلها إلى بركة آسنة.   كان لديه من البساطة والوضوح والشفافية والمسئولية ما يجعله يقول للناس، ودون تردد، هذا طريق وهذه هاوية، ولم يسع قط إلى تضليلهم بحضهم على اللهث وراء أوهام وخيالات وأحلام كاذبة أو خداعهم كأن يقول لهم هذا طريق مفروش بالورود ليكتشفوا على بُعد خطوة من نقطة الانطلاق أنه لم يكن سوى فخ قاتل!

وطريقة البردوني في التصرف باستقلالية وموضوعية وتجرد حيال الأشياء والوقائع لم تكن تنُم عن اللامبالاة وعدم الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع وقضاياه العامة، خصوصاً الجوهرية منها،، بقدر ما تؤكد حجم المسئولية التي يحملها على عاتقه هذا الصنف من المثقف، ولكنها مسئولية من نوعٍ مختلف، مسئولية راقية لا تربط نفسها سوى بقيمة الحقيقة، أو على أقل تقدير، المحاولة الجادة والمخلصة والدءوبة في السعي للوصول إليها، والإصرار على تبيانها متى توفرت، ومهما كانت صادمة، فالحقيقة وحدها هي الطريق الأمن الذي يمكن للناس أن يصلوا من خلاله إلى بر الأمان ودون الوقوع في الهاوية.

لهذا السبب، كانت هناك، على الدوام، تهم أيدلوجية جاهزة تُلصق بهذا الصوت المتمرد على كل الأشكال والقوالب التنميطية، فبين يسارية المذهب، وقومية الهوى… لكن، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات، وعدم إشغال نفسه هو بتأكيدها أو نفيها، فإنه، على الأقل، نأى عن الوقوع والاستسلام لدوغما أي من هذه التيارات السياسية، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع الوحدة، فهذا المشروع، حسب رأيه المبين في الجملة الاستهلالية، قام بنية مبيتة لدى كل طرف لإلغاء الطرف الآخر، لذا فهو مشروع يمهد الطريق للتناحر والصراع وتصفية الحسابات، التاريخية والآنية، وهي ما كانت الدوغما السياسية تسعى بشدة إلى إخفاء هذه الحقيقة  وراء سيل جارف من الشعارات والأحلام الوردية المهيجة للعواطف والمغيبة للعقل وصوت النقد.

 ربما كان البردوني في مجمل موقفه، وبصوته النقدي القوي، قد آمن كما آمن الناقد الاجتماعي البريطاني البارز جورج أورويل بأن الدوغمائية السياسية، من أي لون أو اتجاه كانت، هي، في الأساس، مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، والإجرام يبدو جديراً بالاحترام، ولكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت! ولذلك رفض الخضوع لها، أو التسليم لهذياناتها.

أننا نجد اليوم، وبعد كل هذه السنوات الطويلة، في كلام البردوني وفي صوته النقدي ومواقفه الجريئة ما يبعث على الدهشة، ويثير الإعجاب بشجاعة وبقدرة هذا الرجل على إدراك الأمور واستشراف مآلاتها مهما كان حجم التضليل والتزييف الذي يمارس كي لا تظهر على حقيقتها.

 فمن غير البردوني إذن، كان سيجرؤ على القول بأن الانفصال قائم؛ لأنه من ظن أن الوحدة قائمة فهو غير حساس وغير مبصر أيضاً؛ على حد تعبيره، ولم يكن قد مضى على حرب 94م سوى أشهرٍ قليلةٍ، وفي عقر دار المنتصر! والسبب واضح لدى البردوني، ولا يحتاج إلى عناء البحث والتأمل أو قراءة في الطوالع طالما آلت الأمور بعد الحرب إلى وضعية يكون فيها الشمال والجنوب في صيغة غالب ومغلوب، ولا يمكن تعديل هذا المعادلة على الأرض وفي النفوس مهما أخلصت بعض النوايا الطيبة! ..

ومن غيره كان يجرؤ على وصف “البقرة المقدسة” بأنها كانت مؤامرة لضرب الشطرين في وقتٍ كان من يحاول أن يمس فيه الوحدة بسوء كمن يحاول أن يمس الذات الإلهية حتى وإن كانت دعوة لإصلاحها!… ثم حين يحاول الصحفي الذي أجرى معه المقابلة (الزميل حسن العديني) أن يخفف من وطأة الإجابة (الصاعقة) بطمأنته عن المستقبل السعيد الذي سيكون بانتظار الوحدة (ولكنها تخدم الشعب اليمني في المدى البعيد؟) تأتي إجابة البردوني أكثر قوة من سابقتها، وبدون حاجة إلى تجميل الصورة أو ابتذال التنميق حتى ولو كان ذلك من باب دبلوماسية رثة : “أيوة، بتقتيل الناس.. ما في من الخراب إلا الخراب، وما في من الفساد إلا الفساد”[2]!!!.. وها نحن اليوم نأتي على كلامه، فكم أرواح باسم هذه الوحدة زُهِقت، وكيف صارت أبين أثراً بعد عين بما لم تشهد مثله في تاريخها كله، ولعل ما هو قادم، وكما تشير دلائل كثيرة، أفظع وأدهى!.(قد يقول قائل، قد يكون ذلك صحيحاً إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية نظر جنوبية؛ لكن التاريخ الذي يُدفع بطريقةٍ خارجة عن مسار تطوره الذاتي، والعودة القوية لدعواتٍ لم يكن لها مستقر سوى أدغال التاريخ إلى واجهة المشهد، لا يُبشر، في محصلته، بمستقبلٍ واعدٍ!).

وبعد مُضي أربع سنواتٍ من الحرب الغاشمة، يعود صوت البردوني بقوة، ولكن هذه المرة منبهاً الجميع إلى حقيقة في غاية الأهمية، وكانت غائبة عن الكثير في نشوة النصر، فالحرب، على حد تعبيره، لم تنتهِ «لأن آثارها قائمة، وما زالت تداعياتها تتوالد، فالواحد (يمكن أن) يقول إن الحرب هدأت واختبأت من ظهر الأرض إلى باطن الأرض وأنها قابلة للانبعاث في أي فترة وعلى أي داعٍ من الدواعي[3]».

كان الواقع، بالنسبة للبردوني، هو المختبر الحقيقي لكل الأفكار والنظريات، هو الذي يفحصها بعناية، ويعريها من أي حشواتٍ تجميلية أو تقديسية أو أسطورية، ثم يكشف عن ماهيتها الحقيقية، ومدى صلاحيتها من عدمه. وقد لاحظ البردوني، أن مشروع الوحدة الذي تم تطبيقه على أرض الواقع كان مأساة حقيقية، ومنذ اليوم الثاني لإعلانها.

إنني أقول اليوم، وبعد كل هذه السنوات الطويلة، وبعد ما حدث الذي حدث، واضطراري الدائم أمام كل ذلك للرجوع إلى آراء البردوني لفهم كثير من القضايا، وغربلة كثير من الأشياء، أن ما جعل آراءه طازجة باستمرار، وجعل توقعاته على الدوام بمستوى التجربة الحية فيما يخص الشأن اليمني، هي عدم خضوعه لتقييم القضايا والمشاريع والأفكار بناء على ترسبات «البيئة القاهرة» أو «البيئة المقهورة»، وهي الترسبات التي أوقعت العقل الجمعي ـ بشقيه النخبوي والجماهيري ـ فريسة لتشوش أزلي عند تقيمه لمختلف القضايا والأفكار والمشاريع، فليس المهم حقيقتها، بقدر ما تكمن اهميتها وقيمتها في حجم مشاركتها ومدى خدمتها في تصفية الحسابات مع العدو التاريخي الخفي الدائم.!!